AL-MUBEEN

ينطلق البحث من فرضيَّة مفادها أنَّ الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة تمتلك ذخيرة معرفيَّةً خطابيَّة تصنع تاريخها وتشكِّل وعيها، وتتكون هذه الذخيرة من نصوص وكلام يشقّ طريقه إلى ذاكرة الأمَّة، ليصبح امتدادًا لهذا العمق التاريخي، ويرتبط مثل هذا الكلام والنصوص بشخصيات استثنائيَّة، ومن بين الخطابات الَّتي لا تزال حاضرة حضورًا فاعلًا في التاريخ العربيّ والإسلاميّ خطب الإمام عليّ (عليه السَّلام)، فما زالت عقول الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة كاملةً مُهيَّأةً لتلقيها والانفعال بها، ومن بين تلك الخطب الَّتي ما زالت حاضرة وفاعلة بإشراقاتها الوعظيَّة إلى يومنا هذا (خطبة المُتقين)، الَّتي ستكون موضوع هذا البحث المُتواضع، واستنارةً بهذا المعطى، سيعيد البحث قراءة هذه الخطبة برهانات معرفيَّة مُتجدِّدة، هي دراستها ضمن الدراسات الحديثة بما يسمَّى بتحليل الخطاب، واقتضت خطة البحث أن تتكوَّن من أربعة مباحث تسبقها مقدِّمة؛ جاء الأوَّل: بمقاربة معرفيَّة نظريَّة مُختصرة في تعريف التداوليَّة ودرجاتها، وجاء المبحث الثاني دراسة تطبيقيَّة للإشاريات وأثرها في خطبة المُتَّقين، ودرس المبحث الثالث: التحليل الحجاجيّ في الخطبة، أمَّا المبحث الرابع: فدرس القوَّة الإنجازيَّة لأفعال الكلام في خطبة المُتَّقين، ثمَّ خاتمة تضمَّنت أهمَّ النتائج الَّتي توصَّل إليها البحث، وقائمة بالمصادر والمراجع الَّتي توكَّأ عليها البحث، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسَّلام على أشرف خلقه أجمعين محمَّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين.

يدور البحث حول عناصر الوعظ والحكمة في نهج البلاغة، ويبرز فيه عنصران رئيسان، هما العاطفة والعقل، ويظهر في هذا البحث كيف وظّف أمير المؤمنين علي عليه السلام هذين العنصرين لاستمالة القلوب اللاهية والعقول النافرة إلى سعادتها في الدارين، ويأتي بعدها بعض العناصر الأخرى المتفرعة عنهما كدائرة الوعظ واستعمال الزمان بأقسامه الثلاث.

سارت سياسة الإمام علي (عليه السلام) الفكرية والسلوكية في اتجاه الحفاظ على هوية المجتمع الإسلامي، واتخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) إجراءات وقرارات في ذلك، مما جعل سياسته (عليه السلام) الأولى من تلكم السياسات التي توالت على الأمة الإسلامية وغيرها، مما دفع العالم إلى الاحتفاء بهذه الشخصية المتميزة والنظر إلى ما قدمته من علوم تنفع الإنسانية جمعاء، على المستويات المختلفة، السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، والإفادة منها بما يكون قدوة وأسوة.

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على طه الأمين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى باب مدينة علمه أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
درس البحث (إبلاغية الإشارة في نهج البلاغة) التي تبين في ضوئها إمكانية تطبيق مثل هذه الدراسات على النصوص المكتوبة؛ ولا سيما تلك التي مضى على تدوينها حقبة زمنية طويلة، وخصوصًا على نصوص نهج البلاغة التي تمتاز بالمتانة العالية والأساليب متنوعة؛ إذ تُعد الإشارة من الوسائل اللغوية المستعملة قديماً وحديثاً التي تمنح الخطاب بعداً جمالياً ملفتاً.

عمل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) على التأسيس للأمن اللغوي على وفق أسسٍ متقنةٍ لا زالت حاكمةً إلى اليوم، وذلك بالاعتماد على بناء قواعد ضابطةٍ مهمَّتها تنظيم الذّهنيَّة للمستعمل العربي، وإصلاح ما فسد من كفاءته في صناعة الاستعمال اللغوي، ثمَّ ضبط الأداء الاستعمالي على وفق تلك القواعد الكامنة في الذهن، وذلك عن طريق المراقبة اللغوي للمستعمل في اللغة أثناء أدائه، وقد اعتمد أمير المؤمنين (عليه السلام) في جُلِّ تصويباته على المرجعيَّة القرآنيَّة، بوصفها النمط الأعلى فصاحةً والأكمل إتقانًا على مستوى صناعة الكلام، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أُخرى يمكن أن نربط استناد أمير المؤمنين (عليه السلام) على المرجعيَّة القرآنيَّة في التصويب اللغوي بقصديَّة توثيق العلاقة بين المجتمع التخاطبي للمسلمين مع القرآن الكريم بوصفه الكتاب المقدَّس وأساس التشريع لهم، وهكذا ارتباط يؤدِّي إلى ديمومة التواصل المباشر بين لغة القرآن ومجتمعها العربي.

تم اختيار قصيدتين لشاعرين أندلسيين في مدح شخص الإمام علي (عليه السلام)، هما ابن جابر وابن الجياب، ميدانًا للبحث لما تحملانه من تقنيات فنية متماسكة فيما يتعلق بالوصف والشخصية والسرد. وقد اتخذ الشاعران من شخصية الإمام علي (عليه السلام) الذي كان منارًا ينير لنا درب القرب إلى الله تعالى، فقد كانت أخلاقه قبسًا من نور خلق النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي تربى في حجره وعاش على مائدة مكارم أخلاقه، فكان أنموذجًا قياديًا علميًا خلقًا وسياسة، يندر أو ينتفي وجوده في أمم أخرى، حوت القصيدتين مقاطع وصفية متنوعة الأشكال والتعابير، لذا جاء هذا البحث ليجري دراسة عليها عبر تحليل النصوص الوصفية وبيان أبعادها الفنية والجمالية.