Abstract
تريد هذه الدراسة ان تسلّط الضوء على الهيكل العام لقصيدة الجواهري ,وقد جاء البحث مقسّما على ثلاث حلقات أساسية من بنية القصيدة ( المطلع , المقدّمة , والخاتمة ) , ويجري جميع ذلك وفقا لتأثّر الجواهري بنمط القصيدة العباسيّة مُمَثّلةً بأبي تمام والبحتري والمتنبي, ومدى استلهامه أسالبيهم في بناء النص الشعري.
مدخل
يُقصد بـ (هيكل القصيدة) دراسة شعر الشاعر من حيث البنية التركيبة الخارجية لجميع مظاهر شعره( )، إذ يشكّل العمل الأدبي جسدًا واحدًا متكوّنًا من أجزاءعدّة، وهي أشبه بالسلسلة ذات الحلقات، وإنّ دراسة آليات اشتغالِهِ، ومعرفة كيفية بنائه، تُوجبُ تفكيكهُ والوقوف على تلك الحلقات التي أجملها د. يوسف بكّار في: المطلع، والمقدّمة، والتّخلص، والخاتمة( )، وإنّ القصيدة في النهاية هي حاصل انسجام وتلاؤم هذه الحلقات جميعًا، ولا ريبَ في أنَّ الهيكل هو ((أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيراً فيها. ووظيفتُهُ الكبرى أن يوحّدها ويَمنعها من الانتشار والانفلات ويَلمَّها داخل حاشية متميّزة)).( )
وسيتناول البحث قضية بناء هيكل القصيدة عند الجواهري وعلاقته ببنائها عند الشعراء العباسيين، موضع الدراسة، في ضوء المحاور الآتية:-
1-المطلع
تأتي أهميّة المطلع بوصفه يمثّل عنوان القصيدة في الشعر القديم، وقد أولى الشعراء والنقّاد القدماء المطلعَ بالعناية الكبيرة وأخضعوه للفحص والتدقيق إذ ينَبغي للشاعر أن يَحترز في أشعارِهِ ومفتتح أقوالهِ مما يُتَطّير بهِ أو يُستجفى من الكلام والمخاطبات ( )، وهو عَتبة النص ومفتاحَه، فإذا كانَ الابتداء ((حسناً بديعاً، ومليحاً رشيقاً، كانَ داعيةً إلى الاستماع لِما يَجيء بهِ من كلام)).( )
وقد أدركَ الشعراء أهمية المطلع فَصارَ بمثابة الحافز لاستمالة ذهن السامع وعواطفه، فان الشعر ((قفل أوّلهُ مفتاحُه، وينبغي للشاعر أن يجوِّد ابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع منهُ، وبه يستدلُ على ما عندهُ من أول وهلة)).( )
ويؤكد ابن الأثير تلك الأهمية بقولهِ: ((وإنمّا خُصّت الابتداءات بالاختيار؛ لأنّها أوّل ما يطرق السمع من الكلام)).( )
وعليه أخذَ الشاعرُ يُنّمق مطلع قصيدته ويجتهد في انتقاء الالفاظ والتراكيب والصور من أجل أن يصدِم السامع والممدوح بشكل خاص ؛ لأنّ المطلع يقوم بوظيفة شدّ السامع , وبه ينفذ الشاعر إلى قلب ممدوحه ( )، وإذا كانَ الأمر كما يرى هؤلاء النقّاد فان المطلع سيكون خاصاً بالسامع بعيداً عن ذاتية الشاعر، إلا أنّ مطلع القصيدة((يحملُ نفسيّة الشاعر، ويكون صدى لمشاعرهِ وانفعاله إزاء موضوع القصيدة))( )، وهو بذلك يبتعد عن السامع (الخارج) ليتعامل مع المبدع (الداخل)، كما تبرز أهمية الاستهلال ((بوصفهِ مدخل القصيدة وعتبتها الكؤود، لكونه يتطلب جهداً في إنتاج الكيان النّصي))( )، ويبدو أنّ عدم اهتمام القصيدة العربية القديمة بالعنوان كانَ أحدَ الأسباب التي جعلت المطلع يستقطب جل اهتمام المُبدع والناقد معًا))( )، ولذلك صار لزامًا على مَن يدرس النصّ الشعريّ أن يبدأ بالمطلع.
وبذلك يمكن دراسة المطلع وفقًا لما يأتي:
أ-المطلع المباشر:
يُعدّ هذا الشكل من أشكال المطالع بمنزلة الفضاء الذي يتحرك فيه المبدع معلنًا انفصاله عن المتلقي والنص، ليدخل في أعماقه الذاتية محاولًا تفريغ ما بجعبته من عواطف، ومواقف شخصية تختلج مشاعره، وقد يكون من أهم أسباب اختيارها أنّها سوف تتّسم بالصدق، وتخلو من التّكلف، لكونها تمثّل نفسيّته ومعاناته التي يعيشها.
وقد ظهر هذا الشكل من المطالع في ديوان الجواهري بشكل لافت للنظر، إذ إنّ قيام الشاعر بمحاولة الدخول مباشرة الى الموضوع لم يكن الّا بسبب الانفعال النفسي المتصاعد؛ لأنّ هذا الانفعال لا يعطيه فرصة التّأمل والتّأني ليضع تمهيدًا يفتتح به أثره الإبداعي، ومن أمثلة ذلك ماقالهُ في مطلع احدى قصائده:
أحاول خرقُا في الحياة فما أجــــــــــرا وآسفُ أنْ أمضي ولم أُبقِ لي ذكرًا.( )
وقد ذكر الشاعر في شرح هذا البيت أنّه كان يعيش أزمة نفسية حادّة، وقد استولت هذه الأزمة على مطلع القصيدة، فهو يدخل إلى صلب الحالة الشعورية بشكل مباشر، متحدّثاً عن نفسه، وعن معاناته، ومحاولاته في أن يترك أثرًا في الحياة، وأنْ يُحْدِث تغييرًا ليضع بصمته الخاصة.
وكان الجواهريّ في أغلب قصائده مباشرًا، ففي قصيدة (أرحْ ركابك) ,نجد أنّه يستهلّ قصيدته بمطلع مباشر موظّفاً التّجريد، وذلك بقوله:
أرِحْ رِكابَكَ من أينٍ ومن عَثَــرِ كفاكَ جيلانَ محمولًا على خطرِ.
فالخطاب ــ كما هو واضح ــ موّجهٌ له، وليس لغيره، وتجدر الإشارة إلى أنّ الجواهريّ قد تأثر بأنماط ونماذج الشعر العبّاسيّ، وخاصّة عند أبي تمّام؛ فالقصيدة عند أبي تمّام,غالبًا, ((لا تبدأ بالأطلال أو بغيرها ممّا تعوّد عليه الشاعر القديم، أو الشاعر العبّاسيّ المحافظ، فهي تبدأ بموضوعها مباشرة))( )، ومن أمثلة ذلك قصيدته في مدح (المعتصم بالله) التي يذكر فيها حريق (عمورية) وفتحها، ومنها مطلعها:
السّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ في حدّهِ الحدُّ بين الجدّ واللعبِ.( )
وقد كان هذا المطلع المباشر استهلالا لبنية قصيدة حرب وتحريض مؤثّرة، لذلك كان مباشرًا وقويًا، ومثله أيضًا قول أبي تمام في مدح محمد بن الهيثم بن شبانه:
ديمةٌ سمحةُ القياد سكــــــــــوبُ مستغيثٌ بها الثرى المكروبُ.( )
وقد حوى هذا المقطع طرفين متناقضين(•) (ديمةٌ سكوبُ) التي قصد بها الممدوح وكَرَمه، وَ (الثّرى المكروبُ) التي يقصد بها نفسه وقد ((تفرّد أبو تمام بمثل هذه المطالع؛ إذ أنَّ طرح الفكرة ونقيضَها ثم جمع الفكرة والنقيض معاً فيما يدعى بالتركيب هو أسلوب أبي تمام في مطلعه))( )، وأبو تمام يتّفق مع الشعراء الآخرين في هيكلية القصيدة على وفق نظامها التقليدي المعروف ويختلف معهم في جوهرها ومعانيها.( )
أما عند البحتري فإنَّ عدداً يسيراً من قصائده قد سلكت هذا الاتجاه( ) وأثّرتْ في منهج الجواهري في مطالعه، ومن أمثلة مطالعه المباشرة قوله في مدح أحمد بن الهيثم الأسْدي:
إنَّ السّماحَةَ والتكرّمَ والــنــــــدى لفتى السّماحة أحمد بنْ الهيثمِ.( )
فإنَّ دخول البحتري إلى موضوعِهِ بشكل مباشر هو دليلٌ على أنّه ((لم يلتزم شكلاً واحداً في بناء مطالعه وإن تغلّب عنده بعضهَا))( ) وأنه خالف قواعد النّقاد القدماء في ضرورة أن يكون المطلع طلليّاً في قصائد عدّة إلى جانب التزامِهِ بها تَبعاً لظروف القصيدة.
أما أثر المتنبي في هذه الجزئية من قصائد الجواهري فقد رصدها الباحث في انّ المطالع لديه قد جاءت متمرّدة على ما هو مألوف من قواعد القدماء ومعاييرهم أيضاً، وهو يعلن تمّردهُ صراحةً في مطلع قصيدته التي مدَح فيها سيف الدولة التي استهلّها بقولِهِ:
إذا كانَ مدحٌ فالنّسيبُ المقدَّمُ أكُلُّ فصيحٍ قالَ شعراً مُتيَّمُ( )
وهو إعلانٌ واضح على رفض المتنبّي المقدّمات الطّلليّة والغزليّة التي تأتي من دون مسوّغ، ولذلك جاءت أغلب قصائده بطريقة ((لا تَعْـزِل المطلع أو المقدّمة عن المضمون الأساس بل إنّها هي المضمون الأساس لمظهرها البنائي الذي هو ارتكاز الموضوع بصورة تجلب النظر، فالمطلع مصدر إيحاء لبناء النص كله))( )، وبما ان فكرة الفخر والاعتداد بالذات كانت تسيطر على ذهن المتنبّي فقد جاءت مطالعه ذاتيةً بعيدةً عن أساليب القدماء؛ فهو ((في كثير من أشعاره يخرق ما تواضعت عليهِ مؤسسة النقد في كيفيّة خطاب رجال السّلطة من الممدوحين))( )، لذلك تراهُ يبدأ بنفسهِ من دون الرضوخ إلى قاعدة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في قصيدته التي قال فيها:
أقلَّ فعالي بَلـــــــــه أكثـــــــرهُ مجــــــدُ وذا الجدُ فيه نلتُ أم لم أنَل جَدُّ.
وقد طغت ذاتية الشاعر على المطلع وهذا ما لم تألفهُ المؤسّسة النّقديّة القديمة، ونرصد مثل ذلك في قوله عند مدح كافور:
أوَدُّ من الأيـــــــامِ مـــــــا لا تَودُّهُ وأشكو إليها بَيْنَنا وهي جندهُ.( )
وتستغرق القصيدة عدداً غير يسير من الأبيات التي يعدّها المتنبي مطلعاً ومقدمةً يتحدّثُ فيها عن نفسِهِ وآلامِهِ وآماله وبطولاته حتى ينتقل بعد ذلك إلى غرض المديح، ويبدو أنّ الجواهري كانَ شديد التأثر بالمتنبي في هذا المجال؛ فإنّكَ ((حين تقرأ الجواهري بإمعان وتأمّل، وفي الكثير الأغلب من شعره، لا بدّ أن يمثل أمامكَ المتنبي، شخصية وشعراً، لأن الجواهري يجري على منواله، لا تقليداً له، وإنما لتقارب جدّ شديد بين شخصيتهما ونفسيتهما وشاعريتهما))( )، فكِلاهما كان يستهلُّ أغلب قصائده بمطلع مباشر وذاتي، يدخل فيه إلى اعماقه ليأتي المطلع قوياً وصادقاً وصادماً.
ب- مطلع الحكمة:
إنَّ عدم اهتمام الجواهري بتجميل عنوان القصيدة دَفَعَهُ إلى الاهتمام بالمطلع الذي جاء في عدد من قصائده يحمل معاني الحكمة؛ إذ وظّف فيهِ عصارة تجاربه، وفلسفته الخاصة في الحياة، وهو بذلك يعطي النتيجة ثم يبدأ بالأسباب، ويبدأ بالمجمل ثم تليه التفصيلات، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة (العزم وابناؤه).
هوَ العزمُ لا ما تدّعي السمرُ والقضبُ وذو الجدِّ حتى كلّ ما دونــــــــهِ لِعــــــــْبُ.( )
ثم يبدأ بعد ذلك بالأسباب لتوضيح المعنى وإثبات النتيجة، كقولهِ:
ومَنْ أخلفَتْهُ في المعـــــالي قضيــــــــةٌ تكفّلَ في إنتاجها الصارمُ العضْبُ
ومن يتطّلب مصعِبـــــات مسالــــــــــــكٍ فأيسرُ شئٍ عنده المركب الصعبُ
ومَنْ لم يجـــــد إلا ذعــــــــاف مذلّــــــــةٍ وروداً فموت العزّ مــــوردهُ عــَـــــذْبُ
وبهذا الاتجاه يبني الجواهري هيكل القصيدة، ومن أمثلة ذلك ايضاً قولهُ في قصيدة (أخي جعفر) التي جاء مطلعها استفهامياً خرجَ إلى معنى التقرير.( )
أتَعلَمُ أمْ أنتَ لا تَعـــــلــمُ بأنَّ جراحَ الضّحايا فمُ.( )
وبعد إقرار الحكمة والتأكيد على أنَّ جراح الضحايا فمُ، يبدأ هذا (الفم) بعمليّة فتح النص وانبثاقه لتكون نهاية البيت الأول هي بداية البيت الثاني:
فمٌّ ليـــــــس كالمَدّعـي قولــةً وليـــــــس كآخَــــــــرَ يَسترحِـــــــــمُ
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع أريقـــوا دمـــــــاءكُـــــــمُ تُطعَمـــــــوا
ويهْتِفُ بالنَّفَـــــر المُهطِعيـــــــن أهينِــــــوا لِئامـــَــكــُـــمُ تُكْرمَـــــــــــــوا
إنَّ (الفم) يقوم بوظيفة توسيع المعنى لكونهُ (يصيحُ، ويهتفُ) وهذا ما آرادهُ الشاعر؛ فهو يأتي بالمطلع حكمةً ونتيجةً ثم يبدأ بالتفاصيل التي تؤكد تلك الحكمة.
ومن أمثلة ذلك ايضاً قوله في مطلع قصيدة (آهات).
لا تلُمْ أمســكَ فيمـــــا صنعـــــا أمسِ قد فاتَ، ولن يسترجعا.( )
وهذه حكمةٌ معروفة لدى أكثر الناس، لم يقم الجواهري إلّا بنظمها وتكثيفها في مستهلِّ قصيدته، ثم راح يوضّح الأسباب ويؤكّد الفكرة في الأبيات التي تلت المطلع، مثل قوله:
أمس قد ماتَ، ولن يبعَثه حَملُكَ الهمّ لهُ، والهَلَعــــــا
هدراً ضيّعتَه مثل دَم الـــ ملك "الأبرش" لمّا ضُيِّعا
لَمْ تُمطِّرهُ فلا تســأل بــــه أشبابا أم سحــــابا أقـــلعـا
واطّرِحْهُ واسترحْ من ثقلهِ لاتُضِعْ امسكَ واليوم معــا
وقد فَرَضَ مطلع الحكمة على النص كثرة مجيء فعل الأمر والنهي لتنسجم مع هدف الشاعر في فرض الرأي وإقرار الأمر.
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا التوجّه لم يغلب على قصائد أبي تمام والبحتري، لكنّهُ كان مبثوثاً في قصائد المتنبي؛ إذ يبدأ بمطلع على شكل حكمة ثم يؤكدها في الأبيات التي تليه، وهذا هو ما تأثر به الجواهري في تقنيّات بنائِهِ الشّعري من المتنبّي، ومن أمثلة هذه المطالع عند المتنبي ما جاء في احدى قصائده التي قال فيها :
لا افتخارٌ إلّا لِمن لا يُضامُ مُدرِك أو محاربٌ لا ينـــامُ.( )
ثم يذهب بعد ذلك ليؤكد هذه الحكمة والنتيجة بعدّة أبيات، كقولهِ:
لَيسَ عَزْماً مَا مَرضَ المَرْءُ فيهِ لَيسَ هَمّاً ما عاقَ عنهُ الظّلامُ•
واحتِمالُ الأذَى ورُؤيَةُ جانِيـــــــــ ـهِ غِذاءٌ تُضْوَى بـــهِ الأجســـــــامُ
ذَلّ مَنْ يَغْبِطُ الذّليـــــــــــل بعَــــــيشٍ رُبّ عَيشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمـــــامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتَـــــى بغَيـــــــــــــرِ اقْتِـــــــدارٍ حُجّــــــــةٌ لاجـىءٌ إلَيها اللّئَــــــــــامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهُـــلِ الهَوَانُ عَلَيــــــهِ ما لجُــــرْحٍ بمَيّـــــــــــــــــتٍ إيـــــــــــــلامُ
وهذه الأبيات جميعها ما هي إلّا تأكيد للحكمة التي استهل بها القصيدة , وهو بهذا يختلف عن الجواهري في انهُ لا يشرح ولا يحتاج إلى التفاصيل لتأكيد حكمته، وإنّما هو يأتي بأدّلة تؤكد ما ذهبَ إليه. ومثال ذلك أيضاً قوله في قصيدة أخرى:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تَقنعْ بما دونَ النجــــــومِ. ( )
ثم يأتي بالأدلّة، فيقول:
فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيــــمِ
وقد جاءَ (بالفاء) الاستئنافية في بداية هذا البيت ليجعل القياس منطقياً بالدّليل والحجّة.
مدخل
يُقصد بـ (هيكل القصيدة) دراسة شعر الشاعر من حيث البنية التركيبة الخارجية لجميع مظاهر شعره( )، إذ يشكّل العمل الأدبي جسدًا واحدًا متكوّنًا من أجزاءعدّة، وهي أشبه بالسلسلة ذات الحلقات، وإنّ دراسة آليات اشتغالِهِ، ومعرفة كيفية بنائه، تُوجبُ تفكيكهُ والوقوف على تلك الحلقات التي أجملها د. يوسف بكّار في: المطلع، والمقدّمة، والتّخلص، والخاتمة( )، وإنّ القصيدة في النهاية هي حاصل انسجام وتلاؤم هذه الحلقات جميعًا، ولا ريبَ في أنَّ الهيكل هو ((أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيراً فيها. ووظيفتُهُ الكبرى أن يوحّدها ويَمنعها من الانتشار والانفلات ويَلمَّها داخل حاشية متميّزة)).( )
وسيتناول البحث قضية بناء هيكل القصيدة عند الجواهري وعلاقته ببنائها عند الشعراء العباسيين، موضع الدراسة، في ضوء المحاور الآتية:-
1-المطلع
تأتي أهميّة المطلع بوصفه يمثّل عنوان القصيدة في الشعر القديم، وقد أولى الشعراء والنقّاد القدماء المطلعَ بالعناية الكبيرة وأخضعوه للفحص والتدقيق إذ ينَبغي للشاعر أن يَحترز في أشعارِهِ ومفتتح أقوالهِ مما يُتَطّير بهِ أو يُستجفى من الكلام والمخاطبات ( )، وهو عَتبة النص ومفتاحَه، فإذا كانَ الابتداء ((حسناً بديعاً، ومليحاً رشيقاً، كانَ داعيةً إلى الاستماع لِما يَجيء بهِ من كلام)).( )
وقد أدركَ الشعراء أهمية المطلع فَصارَ بمثابة الحافز لاستمالة ذهن السامع وعواطفه، فان الشعر ((قفل أوّلهُ مفتاحُه، وينبغي للشاعر أن يجوِّد ابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع منهُ، وبه يستدلُ على ما عندهُ من أول وهلة)).( )
ويؤكد ابن الأثير تلك الأهمية بقولهِ: ((وإنمّا خُصّت الابتداءات بالاختيار؛ لأنّها أوّل ما يطرق السمع من الكلام)).( )
وعليه أخذَ الشاعرُ يُنّمق مطلع قصيدته ويجتهد في انتقاء الالفاظ والتراكيب والصور من أجل أن يصدِم السامع والممدوح بشكل خاص ؛ لأنّ المطلع يقوم بوظيفة شدّ السامع , وبه ينفذ الشاعر إلى قلب ممدوحه ( )، وإذا كانَ الأمر كما يرى هؤلاء النقّاد فان المطلع سيكون خاصاً بالسامع بعيداً عن ذاتية الشاعر، إلا أنّ مطلع القصيدة((يحملُ نفسيّة الشاعر، ويكون صدى لمشاعرهِ وانفعاله إزاء موضوع القصيدة))( )، وهو بذلك يبتعد عن السامع (الخارج) ليتعامل مع المبدع (الداخل)، كما تبرز أهمية الاستهلال ((بوصفهِ مدخل القصيدة وعتبتها الكؤود، لكونه يتطلب جهداً في إنتاج الكيان النّصي))( )، ويبدو أنّ عدم اهتمام القصيدة العربية القديمة بالعنوان كانَ أحدَ الأسباب التي جعلت المطلع يستقطب جل اهتمام المُبدع والناقد معًا))( )، ولذلك صار لزامًا على مَن يدرس النصّ الشعريّ أن يبدأ بالمطلع.
وبذلك يمكن دراسة المطلع وفقًا لما يأتي:
أ-المطلع المباشر:
يُعدّ هذا الشكل من أشكال المطالع بمنزلة الفضاء الذي يتحرك فيه المبدع معلنًا انفصاله عن المتلقي والنص، ليدخل في أعماقه الذاتية محاولًا تفريغ ما بجعبته من عواطف، ومواقف شخصية تختلج مشاعره، وقد يكون من أهم أسباب اختيارها أنّها سوف تتّسم بالصدق، وتخلو من التّكلف، لكونها تمثّل نفسيّته ومعاناته التي يعيشها.
وقد ظهر هذا الشكل من المطالع في ديوان الجواهري بشكل لافت للنظر، إذ إنّ قيام الشاعر بمحاولة الدخول مباشرة الى الموضوع لم يكن الّا بسبب الانفعال النفسي المتصاعد؛ لأنّ هذا الانفعال لا يعطيه فرصة التّأمل والتّأني ليضع تمهيدًا يفتتح به أثره الإبداعي، ومن أمثلة ذلك ماقالهُ في مطلع احدى قصائده:
أحاول خرقُا في الحياة فما أجــــــــــرا وآسفُ أنْ أمضي ولم أُبقِ لي ذكرًا.( )
وقد ذكر الشاعر في شرح هذا البيت أنّه كان يعيش أزمة نفسية حادّة، وقد استولت هذه الأزمة على مطلع القصيدة، فهو يدخل إلى صلب الحالة الشعورية بشكل مباشر، متحدّثاً عن نفسه، وعن معاناته، ومحاولاته في أن يترك أثرًا في الحياة، وأنْ يُحْدِث تغييرًا ليضع بصمته الخاصة.
وكان الجواهريّ في أغلب قصائده مباشرًا، ففي قصيدة (أرحْ ركابك) ,نجد أنّه يستهلّ قصيدته بمطلع مباشر موظّفاً التّجريد، وذلك بقوله:
أرِحْ رِكابَكَ من أينٍ ومن عَثَــرِ كفاكَ جيلانَ محمولًا على خطرِ.
فالخطاب ــ كما هو واضح ــ موّجهٌ له، وليس لغيره، وتجدر الإشارة إلى أنّ الجواهريّ قد تأثر بأنماط ونماذج الشعر العبّاسيّ، وخاصّة عند أبي تمّام؛ فالقصيدة عند أبي تمّام,غالبًا, ((لا تبدأ بالأطلال أو بغيرها ممّا تعوّد عليه الشاعر القديم، أو الشاعر العبّاسيّ المحافظ، فهي تبدأ بموضوعها مباشرة))( )، ومن أمثلة ذلك قصيدته في مدح (المعتصم بالله) التي يذكر فيها حريق (عمورية) وفتحها، ومنها مطلعها:
السّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ في حدّهِ الحدُّ بين الجدّ واللعبِ.( )
وقد كان هذا المطلع المباشر استهلالا لبنية قصيدة حرب وتحريض مؤثّرة، لذلك كان مباشرًا وقويًا، ومثله أيضًا قول أبي تمام في مدح محمد بن الهيثم بن شبانه:
ديمةٌ سمحةُ القياد سكــــــــــوبُ مستغيثٌ بها الثرى المكروبُ.( )
وقد حوى هذا المقطع طرفين متناقضين(•) (ديمةٌ سكوبُ) التي قصد بها الممدوح وكَرَمه، وَ (الثّرى المكروبُ) التي يقصد بها نفسه وقد ((تفرّد أبو تمام بمثل هذه المطالع؛ إذ أنَّ طرح الفكرة ونقيضَها ثم جمع الفكرة والنقيض معاً فيما يدعى بالتركيب هو أسلوب أبي تمام في مطلعه))( )، وأبو تمام يتّفق مع الشعراء الآخرين في هيكلية القصيدة على وفق نظامها التقليدي المعروف ويختلف معهم في جوهرها ومعانيها.( )
أما عند البحتري فإنَّ عدداً يسيراً من قصائده قد سلكت هذا الاتجاه( ) وأثّرتْ في منهج الجواهري في مطالعه، ومن أمثلة مطالعه المباشرة قوله في مدح أحمد بن الهيثم الأسْدي:
إنَّ السّماحَةَ والتكرّمَ والــنــــــدى لفتى السّماحة أحمد بنْ الهيثمِ.( )
فإنَّ دخول البحتري إلى موضوعِهِ بشكل مباشر هو دليلٌ على أنّه ((لم يلتزم شكلاً واحداً في بناء مطالعه وإن تغلّب عنده بعضهَا))( ) وأنه خالف قواعد النّقاد القدماء في ضرورة أن يكون المطلع طلليّاً في قصائد عدّة إلى جانب التزامِهِ بها تَبعاً لظروف القصيدة.
أما أثر المتنبي في هذه الجزئية من قصائد الجواهري فقد رصدها الباحث في انّ المطالع لديه قد جاءت متمرّدة على ما هو مألوف من قواعد القدماء ومعاييرهم أيضاً، وهو يعلن تمّردهُ صراحةً في مطلع قصيدته التي مدَح فيها سيف الدولة التي استهلّها بقولِهِ:
إذا كانَ مدحٌ فالنّسيبُ المقدَّمُ أكُلُّ فصيحٍ قالَ شعراً مُتيَّمُ( )
وهو إعلانٌ واضح على رفض المتنبّي المقدّمات الطّلليّة والغزليّة التي تأتي من دون مسوّغ، ولذلك جاءت أغلب قصائده بطريقة ((لا تَعْـزِل المطلع أو المقدّمة عن المضمون الأساس بل إنّها هي المضمون الأساس لمظهرها البنائي الذي هو ارتكاز الموضوع بصورة تجلب النظر، فالمطلع مصدر إيحاء لبناء النص كله))( )، وبما ان فكرة الفخر والاعتداد بالذات كانت تسيطر على ذهن المتنبّي فقد جاءت مطالعه ذاتيةً بعيدةً عن أساليب القدماء؛ فهو ((في كثير من أشعاره يخرق ما تواضعت عليهِ مؤسسة النقد في كيفيّة خطاب رجال السّلطة من الممدوحين))( )، لذلك تراهُ يبدأ بنفسهِ من دون الرضوخ إلى قاعدة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في قصيدته التي قال فيها:
أقلَّ فعالي بَلـــــــــه أكثـــــــرهُ مجــــــدُ وذا الجدُ فيه نلتُ أم لم أنَل جَدُّ.
وقد طغت ذاتية الشاعر على المطلع وهذا ما لم تألفهُ المؤسّسة النّقديّة القديمة، ونرصد مثل ذلك في قوله عند مدح كافور:
أوَدُّ من الأيـــــــامِ مـــــــا لا تَودُّهُ وأشكو إليها بَيْنَنا وهي جندهُ.( )
وتستغرق القصيدة عدداً غير يسير من الأبيات التي يعدّها المتنبي مطلعاً ومقدمةً يتحدّثُ فيها عن نفسِهِ وآلامِهِ وآماله وبطولاته حتى ينتقل بعد ذلك إلى غرض المديح، ويبدو أنّ الجواهري كانَ شديد التأثر بالمتنبي في هذا المجال؛ فإنّكَ ((حين تقرأ الجواهري بإمعان وتأمّل، وفي الكثير الأغلب من شعره، لا بدّ أن يمثل أمامكَ المتنبي، شخصية وشعراً، لأن الجواهري يجري على منواله، لا تقليداً له، وإنما لتقارب جدّ شديد بين شخصيتهما ونفسيتهما وشاعريتهما))( )، فكِلاهما كان يستهلُّ أغلب قصائده بمطلع مباشر وذاتي، يدخل فيه إلى اعماقه ليأتي المطلع قوياً وصادقاً وصادماً.
ب- مطلع الحكمة:
إنَّ عدم اهتمام الجواهري بتجميل عنوان القصيدة دَفَعَهُ إلى الاهتمام بالمطلع الذي جاء في عدد من قصائده يحمل معاني الحكمة؛ إذ وظّف فيهِ عصارة تجاربه، وفلسفته الخاصة في الحياة، وهو بذلك يعطي النتيجة ثم يبدأ بالأسباب، ويبدأ بالمجمل ثم تليه التفصيلات، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة (العزم وابناؤه).
هوَ العزمُ لا ما تدّعي السمرُ والقضبُ وذو الجدِّ حتى كلّ ما دونــــــــهِ لِعــــــــْبُ.( )
ثم يبدأ بعد ذلك بالأسباب لتوضيح المعنى وإثبات النتيجة، كقولهِ:
ومَنْ أخلفَتْهُ في المعـــــالي قضيــــــــةٌ تكفّلَ في إنتاجها الصارمُ العضْبُ
ومن يتطّلب مصعِبـــــات مسالــــــــــــكٍ فأيسرُ شئٍ عنده المركب الصعبُ
ومَنْ لم يجـــــد إلا ذعــــــــاف مذلّــــــــةٍ وروداً فموت العزّ مــــوردهُ عــَـــــذْبُ
وبهذا الاتجاه يبني الجواهري هيكل القصيدة، ومن أمثلة ذلك ايضاً قولهُ في قصيدة (أخي جعفر) التي جاء مطلعها استفهامياً خرجَ إلى معنى التقرير.( )
أتَعلَمُ أمْ أنتَ لا تَعـــــلــمُ بأنَّ جراحَ الضّحايا فمُ.( )
وبعد إقرار الحكمة والتأكيد على أنَّ جراح الضحايا فمُ، يبدأ هذا (الفم) بعمليّة فتح النص وانبثاقه لتكون نهاية البيت الأول هي بداية البيت الثاني:
فمٌّ ليـــــــس كالمَدّعـي قولــةً وليـــــــس كآخَــــــــرَ يَسترحِـــــــــمُ
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع أريقـــوا دمـــــــاءكُـــــــمُ تُطعَمـــــــوا
ويهْتِفُ بالنَّفَـــــر المُهطِعيـــــــن أهينِــــــوا لِئامـــَــكــُـــمُ تُكْرمَـــــــــــــوا
إنَّ (الفم) يقوم بوظيفة توسيع المعنى لكونهُ (يصيحُ، ويهتفُ) وهذا ما آرادهُ الشاعر؛ فهو يأتي بالمطلع حكمةً ونتيجةً ثم يبدأ بالتفاصيل التي تؤكد تلك الحكمة.
ومن أمثلة ذلك ايضاً قوله في مطلع قصيدة (آهات).
لا تلُمْ أمســكَ فيمـــــا صنعـــــا أمسِ قد فاتَ، ولن يسترجعا.( )
وهذه حكمةٌ معروفة لدى أكثر الناس، لم يقم الجواهري إلّا بنظمها وتكثيفها في مستهلِّ قصيدته، ثم راح يوضّح الأسباب ويؤكّد الفكرة في الأبيات التي تلت المطلع، مثل قوله:
أمس قد ماتَ، ولن يبعَثه حَملُكَ الهمّ لهُ، والهَلَعــــــا
هدراً ضيّعتَه مثل دَم الـــ ملك "الأبرش" لمّا ضُيِّعا
لَمْ تُمطِّرهُ فلا تســأل بــــه أشبابا أم سحــــابا أقـــلعـا
واطّرِحْهُ واسترحْ من ثقلهِ لاتُضِعْ امسكَ واليوم معــا
وقد فَرَضَ مطلع الحكمة على النص كثرة مجيء فعل الأمر والنهي لتنسجم مع هدف الشاعر في فرض الرأي وإقرار الأمر.
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا التوجّه لم يغلب على قصائد أبي تمام والبحتري، لكنّهُ كان مبثوثاً في قصائد المتنبي؛ إذ يبدأ بمطلع على شكل حكمة ثم يؤكدها في الأبيات التي تليه، وهذا هو ما تأثر به الجواهري في تقنيّات بنائِهِ الشّعري من المتنبّي، ومن أمثلة هذه المطالع عند المتنبي ما جاء في احدى قصائده التي قال فيها :
لا افتخارٌ إلّا لِمن لا يُضامُ مُدرِك أو محاربٌ لا ينـــامُ.( )
ثم يذهب بعد ذلك ليؤكد هذه الحكمة والنتيجة بعدّة أبيات، كقولهِ:
لَيسَ عَزْماً مَا مَرضَ المَرْءُ فيهِ لَيسَ هَمّاً ما عاقَ عنهُ الظّلامُ•
واحتِمالُ الأذَى ورُؤيَةُ جانِيـــــــــ ـهِ غِذاءٌ تُضْوَى بـــهِ الأجســـــــامُ
ذَلّ مَنْ يَغْبِطُ الذّليـــــــــــل بعَــــــيشٍ رُبّ عَيشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمـــــامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتَـــــى بغَيـــــــــــــرِ اقْتِـــــــدارٍ حُجّــــــــةٌ لاجـىءٌ إلَيها اللّئَــــــــــامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهُـــلِ الهَوَانُ عَلَيــــــهِ ما لجُــــرْحٍ بمَيّـــــــــــــــــتٍ إيـــــــــــــلامُ
وهذه الأبيات جميعها ما هي إلّا تأكيد للحكمة التي استهل بها القصيدة , وهو بهذا يختلف عن الجواهري في انهُ لا يشرح ولا يحتاج إلى التفاصيل لتأكيد حكمته، وإنّما هو يأتي بأدّلة تؤكد ما ذهبَ إليه. ومثال ذلك أيضاً قوله في قصيدة أخرى:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تَقنعْ بما دونَ النجــــــومِ. ( )
ثم يأتي بالأدلّة، فيقول:
فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيــــمِ
وقد جاءَ (بالفاء) الاستئنافية في بداية هذا البيت ليجعل القياس منطقياً بالدّليل والحجّة.