Abstract
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين , والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيّدِنا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين , وبعد :
فالأصواتُ في اللغةِ العربيّةِ تَنْقَسِمُ على مجهورةٍ ومهموسةٍ , وقد حَدَثَ أَنْ حَصَلَ اختِلافٌ بينَ القدامى والمحدثينَ في تصنيفِ الأصواتِ على وفق هذا الأساسِ ؛ من هنا جاءتْ فكرةُ هذا البحثِ (وصفُ الهمزة والطاء والقاف بالجهر) حاولتُ قَدْرَ الإمكانِ الوقوفَ على أَهَمِّ الآراءِ الَّتي قِيْلَتْ قديماً وحديثاً في هذه الأصواتِ .
وقد بدأتُ بحثي هذا بتعريفِ الجَهْرِ عند القدامى والمحدثينَ , ثُمَّ تناولتُ بعد ذلك كُلَّ حَرْفٍ من هذه الحروفِ الثلاثةِ ؛ فبدأتُ بالهمزةِ ثُمَّ الطَّاءِ ثُمَّ القافِ .
أَمَّا مصادرُ البحثِ فتنقسمُ على قسمينِ ؛ القسمُ الأَوَّلُ يُمَثِّلُ كُتُبَ علماءِ العربيَّةِ وعلماءِ التجويدِ , ويتَصَدَّرُ هذا القسمَ ثلاثةُ كتب , وهي ؛ الكتاب لسيبويه (ت 180هـ) و الرِّعاية لمكي (ت 437هـ) و التَّحديد للداني (ت 444هـ) .
أَمَّا القسمُ الثّاني فَيُمَثِّلُ كُتُبَ المحدثينَ , وقد اسْتَعَنْتُ بثلاثةِ كُتُبٍ منها , وهي : الأصوات اللغويّة , لابراهيم أنيس و علم اللغة العام (الأصوات) , لكمال محمد بشر و مناهج البحث في اللغة , لتمام حَسَّان .
واللهَ أسألُ أَن يوفقَنا لما يحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ .
تَعْرِيفُ الجَهْرِ عِنْدَ القُدَمَاءِ والمُحدَثِيْنَ :
الجهرُ ظاهرةٌ صوتيّةٌ لها شأنٌ كبيرٌ في تمييزِ الأصواتِ اللغويّةِ , وتقابلُها ظاهرةُ الهَمْسِ , وقد حظيتْ هاتانِ الظاهرتانِ بعنايةِ علماءِ العربيّةِ وعلماءِ التجويدِ في القديمِ ,و حظيت بعنايةِ علماءِ الأصواتِ المحدثينَ(1) .
والجهرُ لغةً الإعلانُ , يُقالُ : جَهَرَ الشيءُ , عَلَنَ وبَدَا , وجَهَرَ بكلامِهِ ودعائِهِ وصوتِهِ وصلاتِهِ وقرائتِهِ يَجْهَرُ جَهْرَاً وجِهَاراً(2) .
يَتَصَدَّرُ علماءَ العربيّةِ في تحديدِ هذه الظاهرةِ , سيبويه (ت 180هـ) فقد عَرَّفَ الجهرَ بأنَّهُ : ((حَرْفٌ أشبعَ الاعتماد في موضعِهِ , وَمَنَعَ النَّفَسَ أَن يجري معه حتَّى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت))(3) , وقد تابَعَهُ في هذا علماءُ العربيّةِ(4) وعلماءُ التَّجويد(5) .
أمَّا علماءُ الأصواتِ المحدثونَ فقد عرَّفُوا الصَّوْتَ المجهورَ بأنَّهُ الصَّوْتُ الَّذي يَهْتَزُّ الوترانِ الصوتيّانِ حين النُّطْقِ بهِ , وبعكسِهِ الصّوتُ المهموسُ(6) .
والوَتَرانِ الصّوْتِيَانِ رِبَاطَانِ مَرِنَانِ يَشْبَهانِ الشَّفتينِ , يَمْتَدَّانِ أُفقياً من الخلفِ إلى الأمام إذ يلتقيانِ عند الجزء البارز من الغضروف العلوي(7) .
ومن التعريفينِ السَّابقينِ يتضحُ لنا أنَّ ضابطَ الجَهْرِ والهَمْسِ عند سيبويه – جَرْيُ النَّفَسِ مع الحرفِ أو عَدَمُهُ(8) .
أَمَّا المُحْدَثُونَ فقد كان ضابط الجهر والهمس عندهم يَسْتَنِدُ إلى شيءٍ أَدَق من النَّفَسِ , فقد مَيَّزُوا بَيْنَ المجهورِ والمهموسِ بواسطةِ الأوتارِ الصوتيّةِ , فالمجهورُ هو الصَّوتُ الذي يهتزُّ معه الوترانِ الصوتيّانِ , والمهموسُ هو الصَّوتُ الّذي لا يهتزُّ مَعَهُ الوترانِ الصوتيّانِ(9) .
وَقَد بَلَغَتِ الدّراساتُ والتجاربُ الحديثةُ درجةً استطاعتْ من خلالِها معرفة طبيعة تذبذب الوترينِ الصوتيينِ , فقد أكَّدَتْ هذه الدراساتُ أن مُعَدَّلَ التّواترِ الاهتزازيّ للأوتارِ الصوتيّةِ بَيْنَ 60 – 70 دورة / الثانية , لأَخفض الأصوات الرجاليّة , وأنّ متوسّطَ ذبذباتها للرجل البالغ 100 – 150 دورة / الثانية , وللمرأة200 – 300 دورة / الثانية , وعِنْدَ الطفلِ 300 – 400 دورة / الثانية(10) .
وقد أَثَارَ تعريفُ سيبويه وتمييزُه بَيْنَ المجهورِ والمهموسِ جَدَلاً بَيْنَ الباحثينَ المحدثينَ , وكان خلاصةُ بحوثِهِم في هذا المجالِ , الإثباتُ بأنّ سيبويه تمكَّنَ من إدراكِ آثارِ اهتزازِ الوترينِ الصوتيينِ على الأصواتِ اللغويّةِ ؛ على الرغم من اعترافِهِم بأنَّ سيبويه لَمْ يَعْرِفِ الوترينِ الصّوتيينِ(11) .
وإذا كانتْ مسألَةُ التمييزِ بَيْنَ المجهورِ والمهموسِ ومدى دقتها قد حُسِمَتْ لصالح سيبويه, فإن هناك مسألةً أخرى أثارها البحث الحديث , واختلف فيها الباحثونَ .
فحينما أراد سيبويه تقسيم أصوات العربيّةِ على مجهورةٍ ومهموسةٍ , قال : ((فأمَّا ((المجهورة)) فالهمزة, والألف, والعين , والغين , والقاف , والجيم , والياء , والضاد , واللام , والنون , والراء , والطاء , والدال , والزاي , والظاء , والذال , والباء , والميم , والواو, فذلك تسعة عشر حرفاً .
وأمّا ((المهموسة)) فالهاء, والحاء , والخاء, والكاف , والشِّين , والسّين , والتاء, والصاد , والثاء , والفاء , فذلك عشرة أحرف))(12) , وقد تابعه في هذا التقسيمِ علماءُ العربيّةِ(13) وعلماءُ التّجويدِ(14) .
أمَّا الباحثونَ المحدثونَ فقد أجمعوا على أنَّ الطَّاءَ والقافَ اللتين وصفهما سيبويه بالجهرِ , صوتانِ مهموسانِ(15) , واختلفوا في الهمزةِ فمنهم من قَالَ إنَّها صَوْتٌ مهموسٌ لِعَدَمِ تذبذب الوترين معها(16) , وقالَ آخرونَ هي صوتٌ لا مجهور ولا مهموسِ نظراً إلى أنَّ وضع الوترينِ معها يخالفُ كلاًّ من وضع الجهرِ ووضعِ الهَمْسِ , فهي تُمَثِّلُ حالةً ثالثة(17) .
وَسَتَكُوْنُ الصفحاتُ القادمةُ عَرْضَاً لهذهِ الأصواتِ الثلاثةِ , وَبَيَاناً لأَهَمِّ الآرَاءِ الَّتي قِيْلَتْ فيها