AL-MUBEEN

تتلخص فكرة البحث حول إبراز الاستراتيجيات والسياسات الإصلاحية الشاملة التي اتبعها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مجال الإدارة؛ إذ عمل على مبارزة الفساد الإداري وتطبيق العدل في التعامل مع الرعية، والممازجة بين الحزم واللين والحث على التنظيم والانضباط الإداري، وتشكيل جهاز إداري فاعل ومنظم، ووضع معايير صارمة في اختيار الولاة والحكام على الولايات والأقاليم، وعمل كذلك على تكريس منهج المتابعة والمراقبة لأدائهم ومحاسبتهم، وكذلك عمل على تأمين متطلباتهم الاقتصادية منعاً لوقوعهم في الرشوة، وركز أيضاً على أهمية احترام الحقوق المتبادلة بين الحكام والرعية بشكل متقابل؛ فتأخذ الحقوق وتؤدَّى الواجبات.
هذه الاستراتيجيات التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام) عُدَّت من أصول الاصلاحات الادارية وأُسسها التي اعتمدت عليها النظريات المعاصرة في مجال علم الإدارة والقيادة الجيدة، التي تؤكد أنَّ هدف السلطة الأصيل هو أن تكون وسيلة إلى إحقاق الحق وخدمة الخلق . لا مقاماً دنيوياً يشبع غريزة حُبِّ الجاه والتسلط عند الإنسان.

يدرس موضوع البحث الجانب السياسي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي سار به على منهاج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد أيَّد الله تعالى رسوله الكريم برجالٍ آمنو بالله ورسوله، فكانوا جنوده الميامين في حماية الدِّين، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الأنموذج الفريد الذي لا نضير له منذ الدعوة الإسلامية وإلى وقتنا هذا، فهو تلك الشخصية التي عجز التاريخ عن وصفها، وقد تميَّز (عليه السلام) بمواقفه البطولية الرائعة في خدمة الإسلام والمسلمين كيف لا وهو؟ من تربى في بيت النبوة، وحضي برعاية الرسول (صلى الله عليه وآله) واهتمامه منذ نعومة أضفاره، فكانت له من الفضائل التي تميز بها عن رجال عصره، و قد أشار إلى بعضٍ منها الرسول (صلى الله عليه وآله) في كثير من المواقف، ومنها حديثه في جعل أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) وصيَّه وأخاه استناداً إلى الحديث الشريف: «ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هاون من موسى، إلَّا أنَّه لا نبيَّ من بعدي»، وكثير من الأحاديث التي تشير إلى مواقفه ومنزلته ومناقبه (عليه السلام).
ومن هنا درس البحث المضمون السياسي لرسائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة. لقد كان الإمام (عليه السلام) يسعى في الكتب التي وجهها إلى ولاته وعماله على الأمصار والأقاليم الإسلامية، ومنها: خراسان والبصرة والبحرين والكوفة والشام ومصر وغيرها من الأمصار الأخرى، إلى توضيح السياسة العامَّة في كيفية إدارة أمور الولايات والأقاليم وحمايتها عن طريق توضيحه للظروف والملابسات التي قد يستغلها الطامعين بالخلافة والمخالفين له. وإنَّ تلك الكتب لم تكن محصورة في الجانب السياسي؛ بل إنَّها لم تكن تخلو من التوجيه للولاة والعمال من الإحاطة علماً بالجانب التكويني لتلك المدن والامصار والأحداث التي تسيرها.
ولعل أوضحها في ذلك رسالة الإمام (عليه السلام) إلى عامله أبي موسى الأشعري، ورسالته إلى مالك الأشتر حينما ولاه مصر، وفي الأولى وضَّح (عليه السلام) لأبي موسى الأشعري سوء تدبيره لأمر ولايته وعواقب هذا الأمر، أمَّا في الرسالة الثانية فيوضح لمالك الأشتر كيفية إدارة مصر في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وممَّا نعتقده في هذه الرسالة أنَّها من أهم الوثائق السياسية بما تضمنته من أفكار ونظم سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وأخلاقية، ترقى إلى أن تكون أفضل برنامجٍ إصلاحيٍّ لبناء الأمم المتقدمة.

سنركز في هذا البحث على ابتكار طرق جديدة لتوضيح الإجراءات التي قام بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لبناء الدولة وحمايتها للمصالح العامة، وأهمها حاجات الإنسان الضرورية التي تحفظ كرامته بوصفه إنساناً بغض النظر عن انتماءه وأفكاره، فهذه الدولة تأخذ حاكميتها من الشريعة السمحاء وتبني سلطتها على وفق الظروف الموضوعية والحاجات الاجتماعية، وتُنشئ قوانينها استنباطاً من النص المقدس الموحى إلى خاتم النبيين الذي تخرجت على يديه الإنسانية؛ لتكون قادرة على حماية سلوكها الإنساني على وفق العقل والفطرة.

يهدف البحث إلى التعرف على مفهوم الفساد الإداري، وكيفية الوقاية منه، وآليات مكافحته، في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، وإبراز أهمية الإرث الحضاري للأمة الإسلامية إذا ما أعادت قراءته قراءة واعية.

ينظر الإسلام إلى قضايا الإنسان بوصفها شبكة مترابطة لا انفصام لها، ومن ذلك علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بأخيه الإنسان، وبكل أشكال الحياة الأخرى، ولما كان الإنسان هدفاً أسمى في تعاليم الإسلام نلحظ أن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) تؤكد على هذا المنحنى، والإمام علي (عليه السلام) وراث الدوحة المحمدية ما انفك يؤكد هذا المنهج ويحث على تطبيقه قولاً وفعلاً. والتنمية البشرية في الإسلام مسألة تمس الحياة بشكل مباشر، وتؤثر في مجالاتها وأبعادها وتطورها؛ لأنها تعني التنظيم والتخطيط المبرمج، ولذا أصبح الاطلاع على رؤية الإمام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع يشكل أهمية بالغة وملحة؛ لأنَّ المجتمعات الإسلامية لا تستطيع التخطيط لبناء منظومة فكرية حول بناء شخصية الإنسان الفعال المؤثر، وتنمية المجتمع على أسس من الأخلاق الفاضلة، من دون الرجوع إلى أعلام الفكر الإسلامي ومنهم الإمام علي (عليه السلام). إن المتتبع لسيرة الإمام علي (عليه السلام) وأقواله وأفعاله سيدرك بسهولة أن بناء الإنسان الذي هو حجر الأساس في تكوين المجتمع كان من أولويات اهتماماته، وكان (عليه السلام) يبغي من وراء ذلك تنمية الموارد البشرية من أجل بناء مجتمع متكامل، وبذلك يعم النفع والخير للناس جميعاً. ومما لا شك فيه أنَّ المؤلفات والكنوز العلمية في التراث الإسلامي كثيرة ومتنوعة، فيها تعاليم ودعوات إلى الكيفية الصحيحة لبناء شخصية الإنسان وتنمية المجتمع، وكتاب نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) يعد واحدًا من هذه الكنوز، إذا ما قلنا أهمها؛ ولكن ما يلفت النظر هو أنَّه نحن المسلمون قد أتجهنا بأبصارنا صوب التجارب الغربية، وتركتنا هذه المؤلفات القيمة وراء ظهورنا. وفي بحثنا هذا سوف نركز بشكل مباشر على ما جاء في فكر الإمام علي (عليه السلام) في الطريقة الصحيحة والاسلوب القويم لبناء الإنسان وتنمية المجتمع, وسيكون كتاب نهج البلاغة الذي يعد موسوعة علمية المصدر الرئيسي لهذا البحث، وهو بطبيعة الحال، كتاب زاخر بالمعلومات والأمثلة التي تبين فكر الإمام علي (عليه السلام)، والكيفية التي يمكن فيها صياغة نظرية علمية متكاملة لبناء شخصية الإنسان، وتنمية المجتمع، وعلى هذا المنوال فإننا سنتبع المنهج التاريخي العلمي القائم على استقراء النصوص وتحليها، ومن ثم، وضع النتائج لهذا الاستقراء والتحليل بغية الوصول إلى الحلول، التي يمكن الرجوع إليها في التخطيط العلمي؛ لبناء حياة الإنسان المسلم وتنمية المجتمع الصالح، مجتمع الجيل الأول من المسلمين الذين استطاعوا أن يؤسسوا بفكرهم هذ المبادئ الوقيم إنسانية أخلاقية نحن بأمسِّ الحاجة لها في الوقت الحاضر.

يدرس هذا البحث الإيحاء الملتقط من الأساليب الإفصاحيّة في خطب نهج البلاغة، وتعني الحالة الانفعاليّة والشعوريّة الّتي يكون عليها المتكلّم في موقف انفعاليّ ما، وقد تبين أنَّ هناك أساليب عدّة لغويّة تظهر فيها السّمة الانفعاليّة منها أسلوب (المدح والذم، والتعجّب، وأسماء الأصوات، وأسماء الأفعال، والاستغاثة، والإغراء والتحذير)، وكانت أغلبها في خطب الإمام (عليه السلام)، وتكون في مواقف تثور فيها عاطفته ويتّقد وجدانه، ويريد بها أن يفصح عن حالة شعوريّة تختلج نفسه، وقد أشار علماؤنا القدماء إلى الدور الانفعاليّ الّذي تكتنزه هذه الأساليب خاصّة، وتؤدّي درجة الصوت والتنغيم دوراً بارزاً في التقاط الدلالات الإيحائيّة الّتي تنبعث منها، وغالباً ما يكون لها وقع تأثيريّ كبير على نفسية المخاطَبين في التحبيب على أمر ما أو الترهيب منه، وقد وظفّها الإمام (عليه السلام) توظيفاً مزدوجاً؛ فهي تفصح من جانب عن نفسيّة الإمام وما يشعر به، ومن جانب آخر تؤثّر في المستمع لتردعه عن فعل أو تحفزه على آخر.

الحديث في هذا البحث ينصب في سيرة الإمام علي (عليه السلام) وإصلاحه للنظم الإسلامية التي أغفل كُتاب النُظم جزءاً كبيراً منها. وقد وجد الباحث أنَّ برنامج أمير المؤمنين (عليه السلام) الإصلاحي يرتكز على العدل والمساواة، والمحاسبة الدقيقة، ولم نجده قد استعمل أحدًا من الولاة محاباةً أو لغير المصلحة العامَّة هذا على، وإنما استعمل خيار المسلمين على أسس مهنية، هذا من حيث جانب الإصلاح الإداري، وأمَّا في الإصلاح الاجتماعي: فكانت أول مسألة قام بها في برنامجه ضرب النظام الطبقي وما يتبعه من مساوئ تهدِّد الأمن المجتمعي، وقد أولى الإمام (عليه السلام) للإصلاح الاقتصادي عناية خاصة، فسن قانوناً للطبقة الفقيرة لضمان حقوقهم. وفي الإصلاح القضائي: اهتم الإمام (عليه السلام) بالقضاء عن طريق توصياته للقضاة بكتب عدة، وهو أول من نظر في المظالم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وذلك ليرسي مبادئ العدل، ويرد مظالم الناس. أما إصلاحاته في المجال الثقافي: فلم يعهد عن أحدٍ من الحكام أنَّه عنى بالناحية الثقافية أو التربوية أو بشؤون التعليم كما فعل الإمام (عليه السلام) في هذا الجانب. وفي الإصلاح الديني: أولى الإمام (عليه السلام) المزيد من اهتمامه به، وقد اتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية.