AL-MUBEEN

الحياة الطيبة تتمثل بحقيقة الحياة التي تكوّن الحياة الدنيوية أرضية لها فيما تمثل الحياة الأخروية نتيجة لها، ولعلَّ الدور البارز في تجلي هذه الحياة الطيبة الكريمة يبدو لنا جليًّا عن طريق مؤشراتها التي تُعَدُّ (الصحة الروحية) فيها من أهم تلك المؤشرات بل أهمها إن جاز لنا التعبير، ويبدو هذا الأمر جليًّا عندما نطَّلعُ على ما وصلنا من تراث اختص به أهل البيت (عليهم السلام) كجزء من الدين الإسلامي ومشروعه الكبير في بناء الحياة الجديدة الطيبة للإنسان؛ تلك الحياة التي تضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة.
وانسياقًا مع هذه الحقيقة الناصعة انطلقنا في هذا البحث لدراسة مؤشرات الصحة الروحية وعلاقتها بالحياة الطيبة في كلام الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الذي وصلنا عبر كتاب نهج البلاغة، وقد اعتمدنا في كتابة بحثنا علی المنهج الوصفي- التحليلي، وقد توصلنا بعد البحث والتقصي إلى أنَّ الصحة الروحية تتجلی في علاقات الإنسان المختلفة، وتظهر في ثلاثة محاور أصيلة على النحو الآتي:
• علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى.
• علاقته الإنسان بنفسه.
• علاقته الإنسان بالآخرين.
إنَّ هذه المحاور جميعها لها مؤشراتها الخاصة التي تمت الإشارة إليها ومعالجتها علميا في هذا البحث.

يتناول الباحث في دراسته الشخصية الإدارية والقيادية لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أقواله وحكمه ومكاتباته مع ولاته، ويقارن ذلك مع الفكر الإداري والقيادي المادي القائم على المصالح الشخصية وهو فكر السياسي الإيطالي مكيافيلي في كتابه الأمير، وعلى الرغم من الاختلافات بين العملين، فإنهما يلتقيان في نقاط مشتركة، تُتِيحُ ترشيحهما بشكل لائق لمقارنة بين العملين، وكان الغرض الذي دعا الإمام عليًّا (عليه السلام) إلى كتابة جملة من رسائله إلى ولاته هو الغرض نفسه الذي دعا ميكيافيلي إلى كتابة كتابه الأمير، هو إيجاد دليل سياسي لأمير جديد، إلّا أن الهدف المرجو من تطبيق هذا الدليل ونجاحه يختلف باختلاف توجهات الإمام علي (عليه السلام) ومكيافيلي، فالأول أراد إقامة دولة إسلامية قوامها العدل والمساواة، والأمير فيها (خليفة الله)، يعمل بتعاليم الله ولا يستطيع أن يعارضها عملاً بهواه، في حين كان مكيافيلي نتاج نظام اجتماعي وسياسي أفضى به إلى الاقتناع بأن الدين هو العقبة التي تحول دون الازدهار السياسي، وأن السبيل الوحيد للخروج من هذه العقبة هو العودة الى السياسة الوثنية.

إن الذات الإلهية المقدسة كاملة من أي نقص، وهي غير متناهية وجودا. ولا تخضع لأيِّ قيدٍ أو قياس. وما يلزم هذا الوجود هو الوجوب والوحدة. والوحدة أعظم صفة من صفات الله عز وجل، وهذه الوحدة لا يقابلها إمكان التعددية وتمتاز هذه الوحدة بالثبات والسعة والإحاطة. وفي هذا البحث بيَّنا صفات التوحيد، والحدود التي يتم عنها الخوض في معرفة الله تعالى؛ لأن معرفة حقيقة الذات الإلهية وكنهه مستحيلة؛ لأنه دل على ذاته وقدرته من خلال مخلوقاته، وتناولنا الوحدانية في الإحاطة والسعة والصمدية والقوة والسلطان والديمومة والثبات، وتم إثبات أن جميع الموجودات وإن امتلكت بعض الصفات لكن تملكها جزئي وليس كاملًا، فأصبح من الممكن أن تتجلّى هذه الموجودات والإحساس والشعور بها عن طريق الحواس، لكن الوجود الكامل الذي يمتاز بالثبات والاستطاعة والقدرة والديمومة والصمدية التي لا تقبل التجزئة والتركيب لا يمكن أن تتجلّى لخلقه؛ لاستحالة استيعاب تجلّيه من قبل الموجودات الأخرى؛ لأنها فاقدة إلى عناصر تحمل التجلّي.
إن عملية التفكير لها أسباب ومقدمات، وللفرد طاقات وإدراكات محدودة، وعند استخدام آلية التفكير بشيء يفوق قدراته العقلية قد يسبب وقوعه بالوهم وانحراف الفكر عن مساره الصحيح إذا لم تكن المقدمات صحيحة. وإن طاقات الإنسان الكامنة أودعها الله تعالى لمنفعة الإنسان نفسه، وجعل له الآيات والآفاق برهانًا لتوحيده. وعندما يجمع الإنسان تلك الطاقات الذهنية الاستدلالية ويتوجه نحو الخلق ووجوده، فإنَّه يحصل على نتائج عدة مترابطة بأحقية الخلق وحكمة وعظمة ووحدانية الخالق. كما أن عملية التفكير في صفات الله وذاته على الرغم من أنها صعبة المنال، لكن قد يقع الإنسان بانحراف العقيدة والفكر ما لم يكن التفكر بالتدبر والتأمل والنظر، فإن القلوب قبل التفكر تكون غافلة، وإن التفكّر في كنه الذات الإلهية مستحيل؛ لأنه يمتنع على المحدود أن يحيط علمه بالمطلق الثابت.
قمنا في هذا البحث ببيان التفكير السليم وأنواعه وأهميته وتدرجه في نهج البلاغة، وفي هذا البحث تمت الاستعانة بآراء العلماء في التخصصات التربوية والنفسية وكذلك العلوم الإنسانية، والوقوف عند آرائهم حول التفكير السليم وآلياته.
تم في هذا البحث التعريف اللغوي والاصطلاحي لنهج البلاغة ولمعنى التفكير في المعاجم اللغوية.

بعد الحمد لله تعالى نقول: إن الإسلام قد وسم بالعظمة؛ لقيامه على قامتين عظيمتين وركنين رئيسين وهما القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ إذ إنهما توافرا على حقائق ومعانٍ ومبادئ وتعاليم كان من شأنها تنمية الحياة وإنقاذ البشرية وإخراجهم من الدياجير إلى النور، ومن الشر إلى الخير؛ بغية التكامل وضمان الوصول إلى رضا الله تعالى. ولعل من أبرز تلك الحقائق والمعاني العظيمة التي أشار إليها الإسلام، وأكدها نبي الإسلام وأهل بيته الطاهرين هي: مسألة الصلاة على محمد وآل محمد، إذ إن الموروث الحديثي -الذي يقوم على قول وفعل وتقرير النبي وآله - قد بيَّن لنا أن الصلاة على محمد وآل محمد من أعظم العبادات والمناجات عند الله تعالى، وأنها النور الذي اشتق من نور محمد وآل محمد، فكان تعظيم الصلاة على محمد وآل محمد من الله تعالى كرامة للنبي وآله إلى حد عجيب جدا، إذ إنَّ الله جل جلاله أمر المؤمنين المملوءة قلوبهم بالنور على أدائها، وكلَّف خلقًا من النور وهم الملائكة أن يوثقوا من يقولها من المؤمنين بأقلام من نور في صحف من نور، وأودع الله تعالى فيها نورًا، ثم جعل فيها أثرًا وضعيًّا بأنَّ الذي يُكثر منها -أي من الصلاة على محمد وآل محمد- تكون سببًا له في كل خير، وترافقه في جميع مراحل حياته من عالم الدنيا إلى دخوله للجنة، فكانت هي العبادة التي بفضل الله تعالى أسميتها: بعبادة النور؛ لأنها نور من نور على نور في نور إلى نور. إن واحدة من معاني تكريم الله تعالى وبيان حبّه للنبي وآله هو فرضه الصلاة على محمد وآل محمد على سائر الخلق أجمعين؛ التي كان ولا يزال جوهر تشريعها هو قيامها على أعظم الخلق بلا منازع وهم محمد وآل محمد، وإن من أعظم مصاديق آل محمد هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)؛ لقول الله تعالى: «يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(2). لهذا صارت الصلاة على محمد وآل محمد من أبرز وأعظم وأجل وأهم وأشرف وأعلى النصوص الدينية، والطقوس العبادية التي تقربنا إلى الله تعالى زلفى. علمًا أن مدار هذا البحث هو الوقوف على الروايات التي تصرح بأن أهل البيت كمصطلح شرعي يشمل ويعين ويخص الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من بين كل رجال المسلمين الذي أصبحنا نتعبد الله تعالى بالصلاة عليه حينما نصلي على آل محمد في الصلاة على محمد وآل محمد.

يمتلك لفظ الجلالة (الله) قدرةً هائلةً من التأثير في الخطاب؛ لما لهذه اللفظة من القداسة الفاعلة في نفوس المؤمنين بها، ولذلك يعمل المتكلِّم خصوصًا في الخطاب الدِّيني على استثمار تأثير هذه اللفظة في رفع الطاقة التعبيريَّة لخطابه، وبالتالي رفع تأثيره في نفوس متلقيه، وهذا الأمر يزداد فيما لو تمَّ تكرار هذا اللفظ (الله) فيتضاعف تأثيره وتتوسَّع دلالاته وأبعاده التعبيريَّة، ومن هنا نجد أنَّ تكرار لفظ الجلالة في نهج البلاغة قد أخذ مساحاتٍ واسعةً في البناء الدَّلالي، ولا سيَّما أنَّ التكرار لهذا اللفظ كان في خصوصِ الخطابِ التربويّ من نهج البلاغة، الذي يهدف إلى بناء الإنسان أخلاقيًّا، ومن هنا فقد عوَّلنا على تتبُّع مواضع تكرار لفظ الجلالة في نهج البلاغة، وقد وجدناها أربعة عشر موضعًا، وقد تتبَّعنا في هذا البحث الدَّلالات التي خرج لها ذلك التكرار على وفق المنهج النَّصي بمعياريه: الاتِّساق والانسجام؛ لأنَّ التكرار يعمل على ربط مقولات النص المُتباعدة، وتحقيق استمراريَّتها، وتلاحم عناصرها من أَوّل النَّصِّ إلى آخره، ولذلك يُعدُّ من أهمِّ عوامل التماسك النصيّ؛ لما يوليه من الاستمراريَّة في النَّصِّ من طريق ربط أجزائه وعناصره. ولذا جاءت دراستنا على تمهيد بعد المقدِّمة يليه مبحثان وخاتمة، فأمَّا التمهيد فأوجزنا فيه تعريف النَّصِّ ثمَّ التكرار، بعده عرَّجنا على أغراضه ثمَّ نظرة اللسانيَّات له، وبعده جاء المبحث الأوَّل بدراسة التكرار بوصفه معيارًا للاتِّساق، ثمَّ المبحث الثَّاني وفيه بحثنا التكرار بوصفه معيارًا للانسجام، وأخيرًا الخاتمة التي تكفَّلت ببيان أهمِّ نتائج الدِّراسة.

إن ذكر العلاء بن زياد الحارثي في صدر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس من سهو الشريف الرضي (رحمه الله)؛ لوجود هذا النص في عصر متقدم على عصره بقرن ونصف تقريباً، وكذلك ليس من سهو النساخ؛ لعدم وجود أي نسخة من كتاب نهج البلاغة مغايرة لما موجود، فضلًا عن اتفاق شراح النهج على هذا النص، لذا نرى أن السهو قد وقع من الإسكافي في كتابه المعيار والموازنة أو من نساخ هذا الكتاب، وإن الشريف الرضي (رحمه الله) قد اعتمد على هذا الكتاب في نقله لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) محل البحث.
إن الموضوع يتطلب الوقوف على عدة نسخ خطية من كتاب المعيار والموازنة أو العثور على مصدر آخر نقل هذا الكلام عنه لتتبين حقيقة الأمر، لذا ما ذكره ابن أبي الحديد هو الأصوب مؤيَّداً برواية الكافي والعقد الفريد، وأمَّا نص كتاب الاختصاص فلا يمكن الاعتماد عليه من ناحية معرفة المعنون بالخطبة؛ لأنَّ المذكورين، وهما زياد بن شداد وعبيد الله بن شداد لا وجود لهما، ولم يذكرهما أحد، وإنما تفرد بذكرهما كتاب الاختصاص، لذا نرى أن النص قد وقع فيه التحريف والتصحيف خصوصا إذا ما علمنا أن الكتاب قد اختصره الشيخ المفيد من كتاب أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران، وأن نسخه الموجودة فيها نقص وأخطاء.