Abstract
إن القارئ أو المتتبع لشعر محمود درويش يجد فيه نوعاً مميزاً من التعامل مع الفكر الصوفي او الأدب الصوفي بما يشتمل عليه من بحث عن كوامن الذات وبواطنها, وتطهيرها من ادران الدنيا وأوزارها, حتى يتهيأ للإنسان أن يكون نقياً وطاهراً في رؤيته للعلاقة بينه وبين خالقه . الا انّ الامر يبدو مختلفاً مع شعراء العصر الحديث الذين يرغبون في التعامل مع هكذا نوع من الادب أو الفكر بأسلوب خاص من خلال توظيفهم لتلك الأفكار والمعاني , وتلاؤمها مع متطلبات عصرهم وقضاياهم الشخصية أو العامة .
ولعل محمود درويش خير من يمثل ذلك التيار الذي عبّر عنه في توظيفاته الخاصة في قصائد ومجموعات شعرية سبقت ((جداريته ))* , كمجموعته (( العصافير تموت في الجليل )) ,وغيرها , ألا أنّ ما ورد في (( الجدارية )) يختلف تماماً عما سبق , فالنزعة الصوفية التي تميزت بها تلك المطولة تقوم على أساس تجربة ذاتية , ومشاعر خاصة استحوذت على خيال الشاعر وعقله وهو يعيش مرحلة حرجة جداً من حياته , بسبب الأزمة الصحية الخطيرة التي مَرّ بها,والتي أوحت له بالشعور العميق بالموت , والاقتراب الكبير منه , ولعل هذا هو الاساس الذي بنى عليه (الجدارية ), وكان منطلقاً ايضاً للخوض في موضوعات أخرى غاية في الأهمية وعلى رأسها -طبعا- ثنائية الحياة والموت ( الوجود والعدم ) , وثنائية (الزمان والمكان) بتمكنه من الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال تلك الثنائية معتمداً على بعض الثوابت المهمة كتوظيف (الموروث) ,والتركيز على بعض اهم القضايا التي تركت أثرها على ادبه كالقضية الفلسطينية التي عالجها -هذه المرة - بنوع من الشفافية والعمق يختلف عن معالجاته السابقة بحكم ما يعيشه من مشاعر تتراوح بين اليأس والتفاؤل , وهو يشعر انه أفنى عمره وأدبه في سبيل الوصول الى نتيجة مرضية , وانتظار لحظة الانتصار التي باتت بعيدة جداً عن ناظريه هذه المرة , وهو يعدها مشاعر صوفية خاصة تشبه لحظة انتصار الصوفي وهو يتغلب على شهواته ونزواته الدنيوية والفوز برضا الخالق المطلق , وقد وظّف لذلك الفاظاً ومصطلحات صوفية وصوراً عبّرت عن ابداعه وتمكنه من توظيف ذلك الفكر في عصر يبحث عن الحداثة والجدة في الشكل والمضمون , وطريقة النظر الى القديم بشكل يدعو الى التميز والإبداع , بالإفادة من بعض الافكار والرؤى وتوظيفها بحسب التجربة التي يعيشها الشاعر , وهذا ما أشار اليه مدخل البحث . وهو يتناول رؤية درويش وغيره من المحدثين الى الشعر الصوفي أو التجربة الصوفية . ولعل هذا اهم ما ورد من معالجات للتجربة الشعرية الخاصة التي عاشها درويش في (جداريته) والتي تمكنا من عرضها في بحثنا المتواضع هذا ,وهو يكشف عن ذلك التلامس العميق والشفيف لمعاناة الشاعر الذاتية التي اصبحت منطلقاً يعبّر عن تجارب عامة لا يستطيع الشاعر بما يتمتع به حسنّ انساني وقومي عميق أن يتجرد منها , فبات معها وبها وجهان لعملة واحدة .