Abstract
لم يكن ضياء الدين أبو السعادات هبة الله بن الشجري ممّن عُرف واشتُهر بالتفسير أو كان له كتابًا مستقلاّ في ذلك ، بل كان ضليعاً في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب ، فكان أوحد زمانه وفريد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها مُتضلّعا من الأدب. بمثل هذا أو أكثر منه قال عنه معظم من ترجم له(1) . ولكن من يتصفّح كتابه الأمالي الذي هو عبارة عن مجالس علمية ، يجد أنّ مسائلها قد انمازت من حيث طريقة الإملاء بالتنوّع ، فمنها ما أملاه على طلبته من ذات نفسه ، ومنها ما أجاب بها تلامذته ، وثالثها ما يردّ به على مسائل ترده من البلدان كالموصل وغيرها(2) وبلغت هذه المجالس أربعة وثمانين مجلساً ، أقول من يتصفّح هذه المجالس يجد أنّ ابن الشجري قد خصّص عدداً منها في التعاطي مع النص القرآني ، إذ يُعدّ كتاب الأمالي من " كتب الدراسات القرآنية ، حيث بسط ابن الشجري الكلام فيه على مسائل من تفسير القرآن وإعرابه وحذوفه ومشكله"(3) ويحاول هذا البحث الكشف عن طريقة ابن الشجري في دراسة وتحليل الخطاب القرآني على مستويات التحليل المتعددة صرفا ومعجما وإعرابا ودلالة ، فالقراءة الفاحصة للكتاب تُثبت إيمان ابن الشجري بأهمية هذه المستويات في تحليل النص القرآني ؛ لأنّ الدلالة الكلّية لا تتحقق إلّا بالتحليل الشامل للنص ؛ بوصفه بنية كبرى شاملة ، والعناية بعلاقات الترابط والتماسك بين هذه المستويات . فَنَظَر إلى النص على أنّه بناءً متماسكا لا يُمكن تجزئتُه ، مع محاولة ربط هذا النص بالموقف الاجتماعي الّذي أنتجهُ ، فجاء تحليل ابن الشجري في أغلب الأحيان متّسقا مع هذه الرؤية . ولعلّ هذا هو الدافع الحقيقي لاختيار موضوع البحث لتلمّس هذه الرؤى في تراثنا الثرّ والرد على من توهّم غيابها فيه . وتجدر الإشارة إلى تركيز ابن الشجري على التحليل الإعرابي فقد حَفِل كتابه بظاهرة الإعراب وتعدد الوجوه الإعرابية في المسألة الواحدة لذا وجد محقق كتاب الأمالي أنّ ذلك بمثابة البداية الحقيقية للنحو التطبيقي التعليمي(4) وكان مدار الأمر عنده في هذا التعدد من الوجوه الإعرابية هو المعنى فهو " حريص في كل ذلك على أن يؤكد أنّ الإعراب مرتبط بصحة المعنى أو فساده ، وأنّ المعنى يُقَدَّم على الوجه الإعرابي وإن كان جائزا ، وأنّه لابدّ من إعطاء الكلام حقّه من المعنى والإعراب"(5) وهو في هذا لا يختلف عن كبار النحاة والعلماء الأوائل من أمثال سيبويه وابن جني اللّذين أكّدوا ضرورة توافق الإعراب والمعنى. وقبل أن نبيّن الفقرات التي قام عليها البحث لابدّ من إعطاء بيان موجز في اللغة والاصطلاح عن معنى كلمة " التحليل" التي تمحور حولها البحث ، فالتحليل في اللغةِ: مصدرٌ للفعل "حلّل" الذي جذره الثلاثي : "حلَّ " ومعناه في المعاجم العربية: فتحُ الشيء ،ومنه حَلَلتُ العقدةَ . وحلَّ المسافرُ : نزل لأنَّه يحلُّ ما شَدَّ وعَقَد . والحلال الذي ضدُّ الحرام كأنّهُ من حلَلتُ الشيءَ إذا أبَحته(6). ولا يبتعد المعنى اللغوي للتحليل كثيرا عمّا اصطلُح عليه حديثا من معنى إرجاع الأمر إلى عناصره المكوّنة(7). حتّى قيل " إنّ المعنى الذي أشارت إليه المعجمات القديمة قد يكون نواة للمعنى الذي أشارت إليه المعجمات الحديثة وهو إرجاع الأمر إلى عناصره المكوّنة له"(8) وما أشارت إليه المعجمات الحديثة من معنى للتحليل أصبح هو المعنى الشائع في العصر الحديث . وغياب هذا المعنى في المعجمات القديمة دفع أصحاب المعجمات الحديثة ومجامع اللغة العربية إلى الظَّن أنَّ هذا المعنى جاء " بعدما أُشربت كلمة تحليل دلالة الكلمة الأجنبية "Analysis(E)" ، "Analyse(F) " التي تدل على منهج عام يراد به تقسيم الكل إلى أجزائه المكونة له " (9). ومهما يكن من أمر فإنّ المعنى الشائع هو المراد هنا. أمّا وصف التحليل باللّغوي فَلأنَّ الّلغة أصوات يعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم كما يقول ابن جني ، وهذه الأغراض قد تتعدّد وتتنوّع لتشمَل قضايا الحياة من فكر وعقيدة وعلاقات إنسانية ،وهذه الأغراض بحاجة إلى تحليل لفهم المقصود ، فجاء مصطلح التحليل اللغوي الذي ينفرط إلى مستويات من التحليل متعددة تمثّل فروع اللغة من صرف ومعجم وإعراب ودلالة ، التي تتظافر فيما بينها في الكشف عن معنى النص وسبر خفاياه ، وقد ينوب أحدها في أداء هذه المهمّة ، لذا جاءت هذه الدراسة على مبحثين : الأول منها في التحليل اللغوي بأكثر من مستوى . وجاء الآخر في التحليل اللغوي بمستوى واحد (المستوى الدلالي) . إذ اعتمد فيه ابن الشجري على هذا المستوى اعتمادا كلّيا ، فغايته المعنى كما بيّنا في بداية البحث. ومن المُفيد أن نُشير إلى أنّ ترقيم متن صفحات كتاب أمالي ابن الشجري هو غير الترقيم الذي خضعت له دراسة المحقق ، لذا آثرنا في الإحالة على متن الكتاب بذكر رقم المجلس مشفوعا بالجزء والصفحة ، في حين إذا ما أحلنا على دراسة المحقق نوّهنا بها مع ذكر الجزء والصفحة حصرا . ولا ندّعي أنّنا أحطنا بكل ما ذكره المؤلف في مجالسه التي أملاها فهذه غاية تقصُر عنها مساحة هذا البحث الذي يطمح أن يكون مشروع كتاب للإلمام بذلك ، وإنّما وقع الاختيار على ثلاثة مجالس جاءت متسلسلة كما ذكرها مؤلفها وكان اختيارها لتوافقها مع فكرة البحث. وبعد فهذا جهدٌ غايته الكشف عن اللّبنات الأولى التي وضعها علماؤنا الأوائل في الكشف عن نصيّة النص وتلاحم أجزائه ، والذي لا يمكن اكتناه معناه إلاّ بالنظر إليه بوصفه وحدة متجانسة ، يمكن فك شفرتها بتعاضد أكثر من مستوى في التحليل ، أو عن طريق مستوى يتكفّل بالكشف عن المطلوب . فإن وُفّقتُ في هذا فهو من فضل الله ومنّته وإن أخفقتُ فيكفيني أنّي حاولت وآخر دعواي أن الحمد لله ربّ العالمين .